إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فقد أعظم الله تعالى المنة على هذه الأمة بأن بعث فيها أفضل رسول، وأنزل إليها أكمل دين وأقوم شريعة، فكانت الأمة التي استحقت أن تسمى "المسلمين" لتحقق معاني الإسلام فيها؛ إسلام القلب والجوارح، إسلام الفرد والمجتمع، إسلام الحياة كلها لله تعالى وحده لا شريك له.
وهو الإسلام الذي تضمنته تلك الكلمة العظيمة التي تعدل الكون كله؛ بل ترجح به (لا إله إلا الله) وظلت الأمة الإسلامية قروناً تقود الجماعة البشرية، وتسيطر على العالم المتحضر إلا قليلاً، وتتبوأ مركز الأمة الوسط بين العالمين؛ كل ذلك بفضل إدراكها لتلك الكلمة العظيمة، والعمل بمقتضاها، وتحقيق مدلولها في واقع الحياة، ثم أخذ شأن الأمة الإسلامية في الانحطاط، وحضارتها في الذبول، وفقدت شيئاً فشيئاً، مركزها المرموق ومنزلتها السامية، ولم يكن لذلك من سبب إلا أن نور (لا إله إلا الله) قد خفت، ومقتضياتها قد أهملت، ومدلولاتها قد انحسرت.
ولما كانت كلمة (لا إله إلا الله) هي روح هذه الأمة وسر وجودها ومنبع حياتها، فإنها ظلت تفقد من ذاتيتها وأصالتها بمقدار ما تفقد من نور هذه الكلمة العظيمة، حتى آل الأمر في العصور الأخيرة إلى الفقدان الكامل أو شبه الكامل.
وعندما تصاب أمة من الأمم بهذا المرض المدمر "فقدان الذات" فإن أبرز أعراضه يتمثل في الانبهار القاتل بالأمم الأخرى والاستمداد غير الواعي من مناهجها ونظمها وقيمها .
وقد وقع ذلك في حياة الأمة الإسلامية تأويلاً لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لتركبن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضب لدخلتم، وحتى لو أن أحدهم جامع امرأته بالطريق لفعلتموه}.
ولم يكن أخطر من هذا المرض إلا الجهل بحقيقته وعدم إدراك أسبابه، فكان التشخيص الخاطئ سبباً في العلاج الخاطئ، الذي جاء بمضاعفات جديدة.
لقد خُيِّل للأمة أن هذا الداء العضال يمكن مداواته باستعارات ساذجة، ومظاهر جوفاء، وترقيعات صفيقة، تتلقاها جميعها من الكفار الذين أصبحت تخجل من أن تسميهم بهذا الاسم؛ بل أسمتهم "العالم المتحضر" و"الأمم الراقية"!!
وكان استعدادنا الذاتي وقابليتنا للذوبان هما المبرر الأكبر للحرب النفسية الشرسة التي نسميها "الغزو الفكري" تلك التي استهدفت مقومات وجودنا وأسس أصالتنا.
وجاءت طلائع الغزو الفكري -كما هو الحال في سبل الشيطان- متعددة الشعارات، متباينة الاتجاهات، عليها من البهرجة والبريق ما يكفي لتضليل وإغراء أمة منبهرة مهزوزة.
جاءت الاشتراكية والقومية والوطنية والديمقراطية والحرية وفلسفة التطور واللادينية، وغيرها من المسميات والشعارات، وسرت عدوى هذه الأوبئة سريان النار في الهشيم، وتغلغلت في العقول والقلوب التي فقدت رصيدها من (لا إله إلا الله) أو كادت، وتربت على ذلك أجيال ممسوخة هزيلة، أخذت على عاتقها مهمة تعبيد أمتها للغرب والإجهاز على منابع الحياة الكامنة فيها.
ومرت في مطلع هذا القرن حقبة مظلمة، راجت فيها سوق الأفكار الموبوءة والمذاهب المنحرفة، حتى أظهر أعداء الإسلام تفاؤلهم بأن هذه الأمة ستلفظ أنفاسها عما قليل.
ولكن الله تعالى رد كيدهم في نحورهم، وأنبت في وسط الركام والظلام رجالاً صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فانفجرت في كل بلد إسلامي حركة جهادية، وانبثق من تلك الحركات فكر أصيل يستمد من الكتاب والسنة مباشرة، مهتدياً بالوثبات التجديدية التي لم يخل منها عصر من عصور الإسلام، وتكمن قوة هذا الفكر -بل حياته- في سر واحد فقط، هو إدراك أن سبب انحطاط هذه الأمة هو انحرافها عن حقيقة "لا إله إلا الله" وأن الطريق إلى بعثها يبتدئ من تصحيح مفهوم هذه الكلمة وما تفرع منها، وإزالة ما علق في ذهن الأمة حولها من غبش واضطراب .
وكان مقتضى هذا الإدراك -من الوجهة المنهجية العلمية- أن ما يسمى "علم الكلام" الذي شغل علماء العقائد الماضون به أنفسهم أصبح مسألة تاريخية، وأن العودة إلى صفاء العقيدة الإسلامية ووضوح تصوراتها ومفهوماتها تستدعي منهجية أصيلة نقية كل النقاء من التأثيرات الإغريقية القديمة، ومن إيحاءات وسموم الغزو الفكري الحديث.
ولم يكن الإيمان بهذه الحقيقة سهل المنال؛ بل إن الرجال الذين اكتشفوها عانوا بأنفسهم مرارة التجربة وهم يحاولون دراسة الإسلام وفق منهجية غريبة عنه، ورأوا أن من حق دينهم ومن حقنا نحن الأجيال التالية ألا تتكرر المأساة، وأن ينيروا الطريق باختطاط منهج علمي أصيل، وتأسيس دراسات إسلامية تخصصية تدرس العقيدة الإسلامية، بل تدرس الأفكار والمذاهب غير الإسلامية على ضوء ذلك المنهج الأصيل.
وكان من هؤلاء الرجال: الشيخ الفاضل محمد أمين المصري رحمه الله (الرئيس السابق لقسم الدراسات العليا بكيلة الشريعة بـمكة المكرمة) الذي بذل جهده لإدخال مادة "المذاهب الفكرية" ضمن برنامج الدراسات العليا لفرع العقيدة.
وكان من توفيق الله -تعالى- أن عهد بتدريس هذه المادة إلى علم من أعلام الفكر الإسلامي المعاصر، هو الأستاذ "محمد قطب" حفظه الله .
وكان من توفيقه سبحانه لكاتب هذا البحث أن يلتحق بفرع العقيدة، وأن يختار رسالته لنيل درجة التخصص الأولى "الماجستير" في هذه المادة وعلى يد ذلك الأستاذ.
  1. أسباب اختيار المؤلف لموضوع العلمانية

    وإذ كان عليَّ أن أختار مذهباً فكرياً ليكون موضوعاً لرسالتي، فقد هداني الله لاختيار مذهب العلمانية وآثرته على غيره لأسباب، منها:
    1- غموض المدلول الحقيقي لهذا الاصطلاح الخادع بالنسبة لكثير من المثقفين فضلاً عن العامة، فبالرغم من الكساد الذي بدأت المذاهب الأخرى كـالشيوعية والاشتراكية تمنى به بعد اكتشاف الجماهير لحقيقتها، ما تزال أسهم العلمانية مرتفعة، سواء باسمها الصريح، أو تحت شعار الديمقراطية، أو شعار "الدين لله والوطن للجميع" أو شعار "لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين".
    2- التوافق بين ذات العلمانية بوصفها فكرة غربـية واعية وبين موضوعها المتمثل في عزل الدين عن توجيه الحياة، وهو ما يعاني منه الواقع الإسلامي المعاصر، فـ العلمانية -موضوعياً- موجودة في كل نواحي الحياة الإسلامية المعاصرة، وإن لم يكن لها وجود ذاتي متكامل، كما هو الحال في أوروبا.. هذا التوافق يجعل تقبلها -ذاتياً- أمراً سهلاً، ومن ثم يحتم على ذوي الاختصاص دراستها وكشف زيفها وإيضاح تعارضها مع المفهوم الصحيح للإسلام ومقتضيات "لا إله إلا الله" .
    وقد عرفت منذ اللحظة الأولى أن مهمتي ليست بيسيرة، وأن عليَّ أن أخوض في ميادين بعيدة عن مجال دراستي الشرعية البحتة، جاعلاً كل قراءاتي السابقة في الفكر الغربي بمثابة التمهيد فقط لما يجب علي أن أنهض به.
    وفعلاً خصصت نصف المدة المحددة للرسالة -تقريباً- في اطلاع دائب وقراءة متواصلة، مسترشداً بالتوجيهات القيمة والآراء السديدة التي كان أُستاذي الفاضل يزودني بها باستمرار، فاطلعت على أمهات النظريات والاتجاهات في السياسة والاقتصاد والعلم والاجتماع والأدب والفن، وكنت كلما ازددت إيغالاً في الاطلاع ازدادت ثقتي، وقوي عزمي على إكمال الطريق، ومع أن المراجع المذكورة آخر الرسالة لا تساوي إلا جزءاً مما قرأت، فإنني لا أشعر بشيء من الخسارة، بل أحمد الله تعالى الذي أراني الفكر الجاهلي الأوروبي على حقيقته.. والحق أنني علمت علم اليقين أن هذا الفكر ليس باطلاً فحسب، بل هو أيضاً تافه هزيل، وتمنيت من أعماقي أن يهب الله كل شباب أمتي ما وهب لي من معرفة تفاهته وهزاله.
  2. المباحث التي اشتملت عليها الرسالة

    ثم ابتدأت الكتابة مقسماً الموضوع خمسة أبواب:
    - الباب الأول: موضوعه دين أوروبا الذي انحرفت عنه إلى اللادينية، أثبت فيه تحريف الدين النصراني، وأنه لا يمثل دين الله الحق، لا في العقيدة ولا في الشريعة، وتعرضت بالنقد للتحريفات والبدع والخرافات النصرانية، ورغم اتفاقي مع دعاة اللادينية في نقد النصرانية، فقد كنت مخالفاً لهم في منهجهم، وفي بعض الأحيان أعرض وجهة نظرهم وأنقدها.
    وسيلحظ القارئ في هذا الباب الإفاضة وعدم التساهل، وما ذاك إلا نتيجة اقتناعي بأن السبب الأكبر في انحراف أوروبا من صنع الكنيسة، وأن الإسلام يحارب الخرافة كما يحارب الإلحاد.
    - الباب الثاني: موضوعه أسباب العلمانية.
    مع أن تحريف النصرانية في الحقيقة هو السبب الممهد للعلمانية، فقد خصصت هذا الباب للأسباب المباشرة لها، وهي:
    1- الطغيان الكنسي: دينياً وسياسياً ومالياً، مؤيداً بالشواهد التاريخية.
    2- الصراع بين الكنيسة والعلم، عرضت فيه الصراع النكد عرضاً تاريخياً منذ نظرية كوبرنيك إلى نظرية نيوتن مروراً بمدرسة النقد التاريخي، ومذهب الربوبيين والملحدين الأوائل.
    3- الثورة الفرنسية: التي نجحت في إقامة أول دولة اللادينية في أوروبا النصرانية، أضحت أسبابها وآثارها واستغلال القوى الهدامة لها.
    4- نظرية التطور: التي كانت إيذاناً بانتهاء وصاية الكنيسة الفكرية على أوروبا، وانسحابها من الميدان إلى الأبد.. وقد تحدثت عن الآثار المدمرة للنظرية في الفكر والحياة وتطبيقها المريب في حقول المعرفة وميادين السلوك.
    والحق أن هناك أسباباً قد لا تقل عن هذه، غير أنني آثرت ألا أعرضها، بصفتها أسباباً مستقلة، فالقوى الهدامة "اليهود" يمكن اعتبارها سبباً مستقلاً، لكنني لم أعرضها بهذا الاعتبار، لأن اليهود كما سيتضح من ثنايا البحث - يستغلون الأحداث ولا يصنعونها، فاكتفيت بعرض نماذج من استغلالاتهم في مواطنها، مثل:
    استغلال الثورة الفرنسية لتحطيم الرابطة الدينية والخروج من (الجيتو).. واستغلال الداروينية لنشر الإلحاد والإباحية..واستغلال الثورة الصناعية للسيطرة على اقتصاد العالم.. واستغلال الديمقراطية لتوجيه السياسة الدولية.
    على أنني قد عرضت نظريات اليهود مستقلة في مواطنها، مثل: ريكاردو، وماركس في الاقتصاد، ودوركايم وفرويد في الاجتماع والأخلاق، وذلك لضمان وحدة الموضوعات وتماسكها، ومثل هذا يقال في حركة الإصلاح الديني التي هزت الكنيسة وحطمت الوحدة الشكلية للعالم المسيحي.
    - الباب الثالث: العلمانية في الحياة الأوروبية:
    وهو الباب الرئيسي في الموضوع، وقد قسمته حسب التقسيم التقليدي ستة فصول:
    - الأول: في الحكم والسياسة، تعرضت فيه للفكر السياسي اللاديني وأشهر نظرياته، مثل: النظرية الخيالية، نظرية العقد الاجتماعي، نظرية الحق الإلهي، ثم النظريات الحديثة التي تقوم على "الميكافيللية، فلسفة التطور، الديمقراطية" بتفسيريها الليبرالي والشيوعي.
    وقد انتهجت أسلوب النقد بطريق العرض، فقد كنت أعرض أية نظرية كما يراها أصحابها عرضاً يوحي للقارئ بنقدها دون أن أتقول عليهم، وهكذا في بقية الفصول.
    وقد رأيت أن أفضل أسلوبٍ لرد هذه النظريات هو عرض آثارها الواقعية ونتائجها التطبيقية، مستشهداً بشهود من أهلها، وذلك لسببين:
    1- أن تطبيق أية نظرية هو المحك الحقيقي لنجاحها أو إخفاقها.
    2- أن مناقشة تفصيلات النظريات اللادينية المختلفة فوق كونها تستهلك جهداً كبيراً لا تتفق مع حكم الإسلام فيها، الذي يرفض تلك التصورات جملة رفضاً أساسيا، كما سيتضح في الباب الخامس.
    - الثاني: في الاقتصاد، تحدثت فيه عن النظام الإقطاعي، ثم عن المذاهب اللادينية الاقتصادية: المذهب الطبيعي الفيزيوقراطي، المذهب الكلاسيكي الرأسمالي، المذهب الشيوعي، عارضاً نظريات كل مذهب، ثم عقبت على ذلك بعرض الواقع المعاصر والنتائج الفظيعة التي نجمت عن فصل الاقتصاد عن الدين، مؤيداً كل ذلك بالشواهد الواقعية، سواء في الغرب الرأسمالي أو الشرق الشيوعي.
    - الثالث: علمانية العلم، تحدثت فيه عن الأسس والملابسات التي قامت عليها لادينية العلم، مثل: موقف الكنيسة، والإرث الديني والوثني في النفسية الأوروبية، الذي يصور الإله عدواً للإنسان، يتعمد تجهيله كما في سفر التكوين وأساطير الإغريق.. ومظاهر لادينية العلم مثل: استبعاد الغائية والاكتفاء بالعلل الصورية، حذف اسم الله من أي بحث علمي، والاستعاضة بتعبيرات ملتوية كما في مسألة أصل الحياة، وتعميم التفسيرات الميكانيكية للكون والحياة، ورفع شعار العلم للعلم في الغرب، والعلم للمذهب في الدول الشيوعية .
    وعقبت -كالمعتاد- بالحديث عن أثر الفصل بين العلم والدين في المجتمع المعاصر ونتائجه السيئة، مثل: انتشار الإلحاد، وظهور الفوضى العقائدية والقلق على الأجيال المثقفة، واستحالة العلم نفسه إلى خطر يهدد البشرية جمعاء.
    - الرابع: علمانية الاجتماع والأخلاق، مهدت له بالحديث عن مجتمع وأخلاق القرون الوسطى في ظل الكنيسة، ثم فصلت القول في النظريات والمدارس الاجتماعية اللادينية -مبتدئاً بالحديث عن أصول وولادة علم الاجتماع - وهي: نظرية العقد الاجتماعي- المدرسة الطبيعية، المدرسة الوضعية العقلية (كونت، دوركايم) النظرية الاجتماعية الشيوعية، النظرية العضوية والنفعيون، الدراسات النفسية الحديثة (السلوكية - التحليل النفسي)"، ثم أردفت لذلك بالحديث عن الواقع الاجتماعي والأخلاقي المعاصر مكتفياً بنموذج واحد، هو قضية المرأة وما نجم عنها من الشرور الاجتماعية المستطيرة.. وقدمت نماذج واقعية للهبوط الخلقي الشائن الذي تعاني منه المجتمعات اللادينية المعاصرة، شرقاً وغرباً .
    - الخامس: في الأدب والفن، تحدثت فيها عن الاتجاهات الأدبية الأوروبية:
    1- عصر النهضة "الكلاسيكية الجديدة" وما هدفت إليه من بعث التراث الوثني الإغريقي وإنماء النزعة الإنسانية.
    2- العصر الحديث:
    أ- الرومانسية: تصويرها للهروب، مثاليتها، تأليه الطبيعة.
    ب- الواقعية: نشأتها، أهدافها، ميزاتها الفنية.
    3- الأدب المعاصر "من الواقعية إلى اللامعقول" المؤثرات الفكرية والاجتماعية فيه، اتجاهاته الكبرى:
    أ- الإباحية، مع سرد نماذج لها.
    ب- الضياع "اللاانتماء" مع أمثلة أدبية له.
    وفي مقابل الواقع المعاصر في كل مجال عرضت هنا نماذج موجزة لمدارس الضياع المعاصرة "الوجودية، الرمزية، السوريالية، العلمية... إلخ".
    وكان من أبرز العقبات التي واجهتني في هذا الباب محاولة عرض النظريات المعقدة بأسلوب موجز سهل الإدراك.. وأحمد الله إذ أعانني على ذلك .
    - السادس: ماذا بقى للدين، وهو تكملة عامة للباب مع التركيز على يوم الدين أو ساعته، وبيان الإفلاس الذي منيت به الكنائس، وكيف أصبحت مباءات للمفاسد العصرية.
    - الباب الرابع: العلمانية في الحياة الإسلامية:
    لقد رأيت منذ وضع خطة الموضوع، أنه لا ينبغي بحث العلمانية بصفتها مذهباً فكرياً غربياً دون التعرض لآثارها في الحياة الإسلامية.
    والحق أن العلمانية في العالم الإسلامي جديرة برسالة مستقلة، لكنني أرجو أن أكون قد وفقت لعرض أسبابها ومظاهرها عرضاً شافياً.. مع مراعاة حجم الرسالة ومدتها، هذا مع أن الحديث عن العلمانية ونتائجها في أوروبا هو في الحقيقة شامل لمظاهرها في كل مكان على سبيل الإجمال.
    وقد قسمت هذا الباب إلى فصلين كبيرين:
    الأول: أسباب العلمانية في العالم الإسلامي، وقد أوجزتها في سببين بارزين:
    انحراف المسلمين الذي يقابل تحريف النصرانية في أوروبا، أوضحت فيه صور ذلك الانحراف، لاسيما ما يتعلق منها بالتوحيد والعقيدة، وانحسار مفهومات الإسلام في مجال الشعائر التعبدية بتأثير الأفكار الصوفية والركود الحضاري العام، واختتمته بنماذج لتقبل المسلمين الذاتي للعلمانية.
    2- التخطيط اليهودي الصليبي: تحدثت فيه عن جذور العداوة التاريخية للمسلمين من قبل اليهود والنصارى، وأبديتها، والخطة الجديدة للغزو، وإفادتها من الواقع الإسلامي المنحرف، وقسمت المؤامرة إلى أربعة أجنحة كبرى (قوى الاحتلال المباشر، المستشرقون، المبشرون، الطوائف اليهودية والنصرانية والباطنية).. وفصلت القول في جهود وأعمال كل جناح في سبيل تحقيق الهدف المشترك: إخراج المسلمين من دينهم وصبغهم بالصبغة الغربية اللادينية .
    الثاني: مظاهر العلمانية في الحياة الإسلامية: وهو فصل كبير قسمته إلى ثلاثة أقسام:
    1- في الحكم والتشريع: تحدثت فيه عن بداية الانحراف المتمثلة في تخلف المسلمين الحضاري، وجمود الاستنباط الفقهي، وتوهم دعاة اليقظة بأن سبب تأخر المسلمين هو عجزهم التنظيمي والإداري وما أدى ذلك إليه من تبلور فكرة (الإصلاح).. واستيراد التنظيمات ثم التشريعات الكافرة، وكيف انتهى الأمر بالحركة الإصلاحية إلى العلمانية الكاملة في تركيا، وإلى إقصاء الشريعة في البلاد العربية، ومصر خاصة، بالتعاون بين الاستعمار ودعاة الإصلاح، وأثر ذلك في ظهور الأفكار السياسية اللادينية والأحزاب المتعددة الانتماءات.
    2- في التربية والثقافة: تحدثت فيه عن المستوى التربوي والثقافي للعالم الإسلامي قبل احتكاكه بالحضارة الغربية اللادينية، وكيف تمت الازدواجية الخطرة في التعليم، وحركة التغريب الأولى، ثم عن الدعوات الهادفة إلى لادينية التربية والثقافة، مثل " الدعوة إلى اقتباس الحضارة الغربية خيرها وشرها، واحتقار الماضي الإسلامي تربوياً وتاريخياً، وتطوير الأزهر، وتطبيق المناهج التعليمية الغربية، واستيراد المذاهب اللادينية في الفكر والأدب".
    3- في الاجتماع والأخلاق: ابتدأته بالحديث عن سوء تمثيل المجتمع الإسلامي لحقيقة الإسلام، والتقبل الذاتي لتقليد الغرب، ثم فصلت القول فيما أًسْمِي (قضية تحرير المرأة)، ابتداءً من جمال الدين الأفغاني ورفاعة الطهطاوى، وانتهاءً بـقاسم أمين وحركة النهضة النسائية، مع إيضاح دور العلماء والزعماء والأدباء الذين أسهموا في المؤامرة، وسريان الفكرة إلى بلاد الشام والمغرب فضلاً عن تركيا، والنتائج الواقعية لها.
    - الباب الخامس: حكم العلمانية في الإسلام:
    وقد رأيت أن يكون هو خاتمة أبواب الرسالة، وقسمته إلى فصلين:
    الأول: فصل تمهيدي بعنوان: هل للعلمانية في العالم الإسلامي مبرر؟
    أوضحت فيه الفروق الجوهرية بين الإسلام والنصرانية المحرفة عقيدةً وشريعةًَ وتاريخاً وواقعاً، مما ينفي أي مبرر عقلي لاستيراد هذا المذهب المنحرف.
    الثاني: حكم العلمانية في الإسلام:
    بينت فيه حكم العلمانية على ضوء أصول العقيدة الإسلامية والمدلول الحقيقي لكلمة " لا إله إلا الله " ومفهومي " الطاغوت والعبادة "، وخرجت من ذلك بنتيجة هي أن العلمانية تتنافى مع الإسلام من جهتين:
    1- كونها حكماً بغير ما أنزل الله.
    2- كونها شركاً في عبادة الله، وفصلت القول في ذلك مورداً الأدلة من الآيات والأحاديث ومستشهداً بأقوال علماء السلف.
    ومن خلال ذلك ناقشت شبهة التعلل بحرية أداء الشعائر التي تسمح بها بعض الأنظمة العلمانية، وشبهة قصور الشريعة عن مجاراة التطور الإنساني والإحاطة بجوانب الحياة المعاصرة.
    والحق أن تضخم حجم الرسالة مع انتهاء المدة المقررة لها قد حالا دون الإفاضة والتفصيل في بعض الموضوعات -لاسيما ما يتعلق بالواقع الإسلامي المعاصر- كما حالا دون وضع فهارس تفصيلية للأعلام والموضوعات تعين القارئ على الإفادة من الرسالة بصورة أوفى، أما التعريف بالأعلام فعلَّه يتضح من خلال عرض نظرياتهم وآرائهم بالإضافة إلى الإشارة إلى سنة الوفاة، وقد أعرف العلم في الحاشية إذا اقتضى الأمر ذلك.
    وكل ما أرجوه هو أن يتقبل الله مني هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفع بهذه المحاولة المتواضعة من يسلك هذا الطريق من بعد، لنصل إلى فكر إسلامي أصيل متكامل.
    وإنني إذ أشكر الله تعالى على توفيقه ومَنِّه، لأشكر من بعده فضيلة نائب رئيس الجامعة الإسلامية بـالمدينة المنورة، وسعادة عميد كلية الشريعة بـمكة المكرمة، وفضيلة المشرف على هذه الرسالة.. وكل من أسهم بجهده المشكور في شيء منها، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .